أبشع ما شاهدناه من مآسي ضحايا النظام مشهد (وفاء حسن محمد علي الشيباني) وهي تغرف بالملعقة بقايا مخ أخيها المتناثر على موكيت الغرفة وأثاثها، في جمعة 11-11-2011م في تعز دار البطولة والعز.
مشهد .. لا عين كاميرا رأت!
ولا أُذن راصد سمعت!
ولا خطر على عقل بشر واسع الخيال!
الكاتبة والاديبة الدكتورة رشيدة القيقلي |
اخت الشهيد تكتب هذه العبارة بدم أخيها الذي اغتيل في بيته بقذفة مزقت رأسة |
والحاكم (صالح) يفعل لمواطنيه ( جمعة دامية)
قالت لي وفاء (24عاما ) :
أخي هاني(33عاما) كان سند البيت ولهذا تأخر زواجه لأنه بذل مجهوده لخدمة الأسرة،كنا نلح عليه لتزويجه في عيد الفطر ،فقال: خلاص أخر كلام في عيد الأضحى.
نعم يا وفاء لقد صدق شهيدك فكان حقا أخر كلام، لعل موعد زواجه في الجنة.
الأم منهارة وتفزع في نومها كثيرا،فقد كان هاني يدها ورجلها بل عينها اليمنى حسب ندبها لإبنها.
وفاء العازبة والمدربة في مجال التنمية البشرية وخريجة علوم القرآن، كانت تتمنى في تلك اللحظات التي شاهدها عشرات الملايين في التلفاز، لو أن معجزة ترجع له وجهه كي تشاهد وجهه الحبيب كنظرة أخيرة، نظرة واحدة فقط، تمنت ذلك رغم أنها أيقنت بموته من أول لحظة رأت جمجمته المهشمة المفصولة بقذيفة (علي وعياله).
قالت : كنت أبحث عن أي شيء يرد وجهه، لكن هاني ذهب إلى ربه بلا وجه.
ما تزال وفاء ــ حتى وقت هذا الحوار ــ تلتقط بقايا الوجه وبقايا المخ من بين الستائر والمفروشات.
هكذا الديولة ولا بلاش يا علي صالح!
هكذا مواجهة التحدي بالتحدي ولا بلاش يا علي صالح!
يقول البعض أن وفاء لم تكن تعي ما تفعل حين لملمت المخ المتطاير وحين كتبت بالدم على الجدار وحين زغردت، ترد وفاء بثقة: بل كنت أعي تماما ما افعل. قولي لهم يا رشيدة أن شيئا ما نزل على قلب وفاء الشيباني.
ها أنا ذي أقول لهم ذلك يا وفاء، وألتمس منك العذر للقائلين، فلعلهم لا يدركون ماذا يعنيه الإيمان في تثبيت الإنسان وقت الشدائد والمحن، شيء وفاء الشيباني هو نفسه شيء أم موسى عليه السلام ، قال تعالى : (وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ).
ملحمة التجميع التي خاضتها وفاء كانت بعد الحادث بدقائق،أما التصوير فقد كان في ختام الملحمة بعد ساعة ونصف تقريبا، تقول (فارسة بني شيبة): الجميع في البيت كانوا مفزوعين، نزلت إليهم في الدور الأسفل لأبلغهم أن هاني أُستشهد، صعد أخي الأكبر فهمي فلم يتماسك، صعد خالي فكان يشيح بوجهه كلما حاول النظر إلى الجثة، من يصيح لا أريده أن يصيح، كنت أريد التركيز فيما افعل،كنت أفكر بأبي وأمي، وكيف أحول دون تعرض أبي لصدمة قاتلة سيما وقد تعرض لجلطة في القلب قبل أيام، وكلما أخرجوني رجعت.
تماما كما كان بال (أم موسى) مشغولا بمصير ابنها، كانت ( بنت حسن) مشغولة بمصير أبويها، كان فؤادا هذه وتلك يشتعلا قلقا وخوفا لولا أن الإيمان انبثق في قلبيهما وحل فيهما كـ (بدل فاقد) ومفقود عزيز تريانه يغور بعيدا بعيدا، عاد موسى لأمه،ولن يعود هاني لأخته، هاني رحل وسقط شهيدا قبل أن يرحل علي ويسقط نظامه،لا بأس ولا حسرة يا شعب اليمن فإنما العبرة بالخواتم، سيرحل علي
بأي طريقة كانت وإلى مصير ما، وسيسقط نظامه بالتي هي أحسن أو بالتي هي مش أحسن، حتما سيرحل وحتما سيسقط وحتما ستقر أعين الضحايا وأقاربهم، وستزغرد وفاء الشيباني مرة أخرى زغرودة الفرح وشفاء الصدر، وأنا على يقين أن (علي وعياله) يعلمون أن هناك مثل شعبي يقول ( ما تموت العرب إلا متوافية) متوافية يا وفاء !
تقول وفاء: إحنا قلنا ارحل وهو رد علينا بتفجير الجماجم.
حقا كأنما حقد علي وعياله على تعز العز والثورة يريد تحويلها إلى (دار الجماجم) أسوة ببلدة عراقية اسمها ( دير الجماجم) ، ولكن من يضمن لعلي وعياله ألا تكون جماجمهم من ضمن هذه الجماجم؟
لا أحد .. لا أحد .. لاااااااا أحد
سألت وفاء: كيف خطرت على بالك الكتابة بدم أخيك؟ ولماذا اخترت كلمة (إرحل يا سفاح ) قالت : الفكرة جاءت من إحساسي بأن علي صالح هو القاتل الحقيقي وهو المحرض على قتل المدنيين في بيوتهم، لقد كتبنا ارحل بالحبر، فلما فجر جماجمنا وسفك دماءنا فسنكتبها بالدم من الآن وصاعدا، رؤية الدم صارت تذكرنا بعلي صالح.
كان الدم قد تجلط حين خطت وفاء كلمة ارحل ولهذا غرفته بيدها وجعلته حبرا، تُرى هل سيسمح القدر لوفاء أن تغترف غرفة بيدها من دماء (علي وعياله) كي تكتب على جدار تعز : رحل السفاح أخيرا؟
كنت أتمنى أن أنسى أن أقول لكم أن وفاء تحتفظ بدماء هاني في الثلاجة، لكني لم أنس! لأن وفاء لا تريد أن تنسى، وسيظل دم الشهداء حاراً فواراً يطارد علي وعياله وأعوانهم حتى وإن كان مودعا في فريزر لموعد إقترب لا ريب فيه!
هل بكيت يا وفاء ؟ قالت :لم أبك ولا وقت عندي للبكاء.
لا وقت الآن للبكاء يا قريبات الشهداء والجرحى مهما بلّط (علي وعياله) أرض اليمن بجماجم الشهداء،فحسبكن يوم قريب تبكين فيه من الفرح بسقوط (علي وعياله) في قبضة العدالة الإلهية أو البشرية، سيان فكل الطرق تؤدي إلى روما !
تقع (دير الجماجم)على سبعة فراسخ من الكوفة من طريق البصرة، وقعت فيها معركة (دير الجماجم) والتي استمرت مائة يوم، بين قوات الحجاج الثقفي وقوات ابن الأشعث، وبعد انتصار الحجاج خطب مزهواً يقول".. ويوم دير الجماجم وما يوم دير الجماجم، بها كانت المعارك والملاحم، بضرب يزيل الهام عن مقيله، ويذهل الخليل عن خليله، يا أهل الكفران بعد الفجران، والغدران بعد الخذلان،والنزوة بعد النزوات، إن بعثناكم إلى ثغوركم غللتم وخنتم، وإن أمنتم أرجفتم، وإن خفتم نافقتم، لا تذكرون نعمة، ولا تشكرون معروفا، ما استخفكم ناكث، ولا استغواكم غاو، ولا استنقذكم عاص، ولا استنصركم ظالم، ولا استعضدكم فاسد، إلا لبيتم دعوته، وأجبتم صيحته، ونفرتم إليه خفافا وثقالا، وفرسانا ورجالا، ألم تنفعكم المواعظ ؟ ألم تزجركم الوقائع؟ ألم يشدد الله عليكم وطأته، ويذقكم حر سيفه، وأليم بأسه ومثلاته ؟".
إن هذا الخطاب هو خطاب النصر الذي يستحق الشعب أن يلقيه على مسامع النظام يوم أن يحق الله الحق ويزهق الباطل،فهذه الصفات قد حواها النظام من قمة رأسه حتى أخمص أقدامه،وكل خطاب من هذا القبيل يجب أن يكون موجها لمجرمي هذا النظام الذين بنوا عروش سلطتهم وتسلطهم وإطالة سلطنتهم على آلاف الجماجم.
وختاما أقول بلسان كل يمني:
لبّيك تعز البطولة سنجعل من جماجمنا لعزك سُلماً.
د/رشيدة القيلي
تعليقات
إرسال تعليق