ثورة أم صحوة؟.. بين تغيير النظام وإصلاح المجتمع 3- د/ رفيق حبيب

الورقة الاخيرة /
أخرى بين دور الدولة ودور المجتمع، مما يجعل المجتمع في حالة سلبية، حتى وإن كان هو من يختار
السلطة السياسية في انتخابات حرة نزيهة.
وفي المقابل، فإن إحداث تغيير جذري في بنية النظام السياسي، وتحسين أداءه وتوجهاته، وتفعيل
دولة القانون، وإقامة العدل، سوف يؤدي إلى تغيير كامل للنظام السياسي، ويحقق اهداف الثورة. ولكن
هذا التغيير ليس له أي معنى دون حدوث تغير في المجتمع مماثل. وقد يتصور البعض، أن المجتمع
سوف يتغير تلقائيا، إذا تغير النظام السياسي. وهذا صحيح إذا نظرنا إلى حقيقة أن النظام السياسي الفاسد،
هو الذي أنتج المجتمع الضعيف المتردي. ولكن إذا نظرنا إلى حقيقة الثورة، وأنها ثورة شعبية اسقطت
نظام الحكم، فإن تلك الثورة لا تكتمل إلا عندما يشارك المجتمع في صناعة الدولة التي يريدها، والنظام
السياسي الذي يريده. فإذا قام عامة الناس بدورهم في بناء الدولة والنظام السياسي الجديد، فإن الإرادة
الشعبية تستكمل دورها، وتؤسس لدورها المستقبلي، بحيث تكون تلك الإرادة الفاعلة هي صانعة المستقبل
فعلا. ولكن إذا تصورنا أن مسئولية استكمال الثورة انتقلت من المجتمع إلى الدولة، وأصبح على السلطة
السياسية المنتخبة أن تستكمل مسيرة الثورة، من خلال أدوات الدولة، ودون أي دور للمجتمع؛ فإن هذا من
شأنه أن يعظم من دور الدولة على حساب المجتمع مرة أخرى.
وإذا أصبحت المقابلة بين الدولة والمجتمع، قائمة على أساس أن الدولة تتحمل المسئولية،
والمجتمع يتمتع بحق الرفض والاعتراض والاحتجاج، فمعنى هذا أننا بصدد مجتمع يقوم بدور المشاهد
الفاعل، وليس بدور الفاعل الرئيس، أي أن المجتمع يراقب الدولة، حتى تيسر في الطريق الذي يريده،
ولكنه لا يقوم بأي دور فاعل، ليس من أجل إصلاح الدولة فقط، بل من أجل إصلاح المجتمع والأفراد
أنفسهم. ومهمة الإصلاح الاجتماعي ليست مهمة دولة، حتى وإن شاركت فيها الدولة، كما أن مهمة
إصلاح السياسات المالية، ليست مهمة المجتمع، حتى وإن شارك فيها المجتمع.
فإذا كان المجتمع لا يرى لنفسه دورا في إصلاح الدولة، ويوكل هذه المهمة لمن ينتخبه، فتبقى
مهمة إصلاح المجتمع نفسه. وصحيح أن كل إصلاح في الدولة سوف يؤثر إيجابيا على المجتمع، وكل
إصلاح في النظام العام سوف يؤثر إيجابيا، وكل إقامة لدولة العدل سوف تؤثر إيجابيا، ولكن يبقى في
النهاية أن الإصلاح الاجتماعي الشامل لا يتحقق بدون دور المجتمع، كما أن كل إصلاح للدولة لا يكتمل
إلا بدور إيجابي للمجتمع. فإذا غاب المجتمع، لن تستكمل مسيرة الثورة، حتى وإن تحققت بعض أهدافها
من خلال السلطة السياسية المنتخبة.
والمشكلة أن أي إصلاح في أداء الدولة، يمكن أن تعرقله الكثير من السلبيات المنتشرة في
المجتمع، فإقامة دولة القانون غير ممكنة في ظل انتشار المخالفات بين أغلب الناس أغلب الوقت، وليس
بين بعضهم لبعض الوقت. وحل مشكلة الفساد غير ممكن، إذا كان المشاركين في منظومة الفساد أو
منظومة الإكراميات، هم أغلب الناس أغلب الوقت. وحل مشكلة المرور غير ممكن، إذا كان المخالفين
لقانون المرور، هم كل من يقود سيارة، وإذا كان من يلتزم بقانون المرور من قائدي السيارات، يتم
استهجان تصرفه من أغلب قائدي السيارات الآخرين. فأي إصلاح يحدث في الدولة إن لم يرافقه تغير في
سلوكيات عامة الناس، فإن تأثيره سيكون قليلا، أو ربما يهدر تأثيره تماما.
ولا أتصور أن الجدل يمكن أن يركز على أولوية الإصلاح، ما بين إصلاح المجتمع أو إصلاح
الدولة، فعملية الإصلاح هي عملية شاملة، تحدث على كل المسارات بالتوازي. ونجاح عملية الإصلاح
ثورة أم صحوة؟.. بين تغيير النظام وإصلاح المجتمع أكتوبر 2102
8
الشامل، التي تحتاجها دول الربيع العربي بعد الثورات الشعبية، تتطلب إحداث تقدم على كل المسارات
بصورة متوازية، حتى تتحقق النقلة النوعية، التي تخرج البلاد من كبوتها، وتبدأ مسار تقدمها ونهضتها.
فإذا كانت عملية إصلاح الدولة تواجه بقوى الدولة العميقة التي تحاول إعاقة أي إصلاح للدولة،
فإن عملية إصلاح المجتمع معطلة بسبب تشكل مضادات للثورة داخل المجتمع، وبسبب أن المجتمع
مازال مشدودا لما هو مألوف له، ولم يقدم بعد على إحداث تغيير حقيقي في حياته، وركز اهتمامه على
تغيير السلطة السياسية فقط. وكأن المجتمع جعل من النظام السابق والدولة عدوا، وخرج في وجه أعدائه،
ولا يريد أن يواجه نفسه، رغم إدراك عامة الناس أن حالة المجتمع متردية.
شروط الصحوة
كما إن للثورة شروط يجب أن تتحقق حتى تقوم الثورة، كذلك فإن الصحوة الشعبية التي تعقب
الثورة لها شروط أيضا. ففعل الثورة ليس كافيا في حد ذاته، لانطلاق حالة الصحوة المجتمعية اللازمة
لإحداث التغيير والإصلاح. ولأن الثورة الشعبية حدثت في نهاية النفق المظلم، أي في مرحلة الانهيار
الكامل للدولة والمجتمع، لذا تشكلت العديد من العوائق، التي تفصل بين زمن الثورة وزمن الصحوة، أي
تفصل بين لحظة خروج عامة الناس في وجه النظام المستبد والفاسد، وبين لحظة توجه عامة الناس إلى
مرحلة البناء والإصلاح. فالصحوة هي حالة مجتمعية وثقافية، تدفع عامة الناس إلى تغيير أنفسهم وتغيير
المجتمع، وتغيير النظام العام والنظام السياسي معا، حتى يتم بناء مستقبل جديد. ولهذا الحالة شروطها،
والتي يتأخر تحققها بسبب ما يعانيه المجتمع من حالة تردي داخلي عميق. فالثورة مثلت لحظة انفجار
جماهيري، ولم تمثل في نفس الوقت لحظة إفاقة جماهيرية واسعة، لأن تلك الإفاقة لم تتحقق شروطها
بعد، وأيضا لأن الإفاقة تحتاج لقدرات مجتمعية وجاهزية اجتماعية، ليست متوفرة في المجتمع وهو
مازال يعاني من حالة ضعف.
فالثورة الشعبية ضد النظام، لم تحدث في لحظة قوة المجتمع، ولكن حدثت في لحظة ضعفه،
ورغم تلك الحالة فإن المجتمع خرج في أغلبه ضد النظام، بسبب تردي أحوال المعيشة وتفشي الظلم
والفساد. ومن شدة ما وصل له المجتمع من معاناة، خرج ضد النظام وأسقطه، رغم حالة الضعف التي
يعيش فيها المجتمع.
لهذا تبتعد المسافة بين الثورة والصحوة، حتى تتجمع العوامل اللازمة لدفع المجتمع نحو عملية
البناء الفاعل، ودفعه للقيام بدور إيجابي. وهي تلك العوامل اللازمة، حتى يسترد المجتمع عافيته، ويسترد
قدرته على الفعل البناء. ومن أهم تلك العوامل:
0. إن فعل الثورة يكشف على أن الفعل الجماعي يمثل القوة الحقيقية للمجتمع، لذا عندما
أصبح غالب المجتمع في لحظة توحد جماعي، اسقط النظام، وعندما استمرت تلك
الحالة، بالقصور الذاتي لفترة، استطاع أن يقدم نموذجا إيجابيا جماعيا. ولكن عندما عاد
الناس بعد سقوط النظام، عادوا أفرادا مرة أخرى. وأصبح كل فرد ينتظر المبادرة من
الآخرين، وأصبح أغلب الناس يتحجج بما يفعله غيره. وبهذا أصبحت لحظة الفعل
الجماعي المتشكلة في الثورة، هي لحظة التظاهر والاحتجاج ضد السلطة. ولم تتشكل
بعد لحظة الصحوة الجماعية. لأن الإفاقة المجتمعية هي فعل جماعي، وليست فعلا فرديا.
ثورة أم صحوة؟.. بين تغيير النظام وإصلاح المجتمع أكتوبر 2102
9
ولهذا تظهر المبادرات الفردية أولا، وتبقى حالات استثنائية لفترة زمنية، حتى تتحقق
حالة الإفاقة الجماعية، وتبدأ مرحلة الفعل الإيجابي الجماعي.
2. لا يمكن لعملية التغيير والإصلاح أن تتحقق أو تستمر، إلا إذا حدثت بشكل متوازي على
مختلف الأصعدة. وعمليا لا يمكن أن تبدأ مرحلة الإصلاح في كل المجالات مرة واحدة.
لذا فإن عملية الإصلاح في أي مجال، لا تمثل انطلاقة فعلية للإفاقة المجتمعية، إلا بعد
أن تبدأ عمليات إصلاح أخرى متوازية، وإن كان بدرجات أقل. لذا فعملية الإصلاح تبدأ
بطيئة، وربما تبدو محبطة، حتى تتجمع بعض الخطوات الإصلاحية المهمة، سواء على
مستوى الدولة أو المجتمع، مما يشكل بداية لحركة تغيير وإصلاح، فتنمو عملية
الإصلاح بمعدلات أكبر.
3. كل عملية إصلاح تحتاج لبداية رمزية، وفي حالة الثورة الشعبية، تحتاج الشعوب لبداية
رمزية من قبل الدولة، باعتبارها المتهم الأول فيما حدث للمجتمع. وربما يحتاج المجتمع
لعدة بدايات رمزية من السلطة السياسية المنتخبة، قبل أن يشعر بأن عجلة التغيير قد
دارت بالفعل. ولكن تلك المؤشرات الرمزية التي قد تبدأ من قبل الدولة، تحتاج إلى
مؤشرات أخرى يشعر بها الفرد العادي في محيطه الاجتماعي. فمبادرات من هنا
وهناك، يمكن أن تكون بداية رمزية لعملية التغيير والإصلاح.
4. إن أكثر ما يحبط عامة الناس، عدم امكانية إحداث تغييرات واسعة في فترة قليلة، ونظرا
لما آلت إليه أمور الدولة والمجتمع قبل الثورة، يصبح التغيير السريع أمرا صعبا، لذا لا
يدرك الكثير من الناس حجم ما يحدث من تغيير، إلا بعد فترة زمنية، حيث تتراكم
التغييرات الحادثة، سواء على مستوى المجتمع أو الدولة. وقبل حدوث هذا التراكم، يظل
أغلب الناس لا يشعر بالتغيير، ثم يبدأ بعضهم يشعر بالتغيير وهكذا. والمشكلة أن أغلب
الناس لا تتحرك بمبادرة فردية، إلا عندما تدرك أن تغييرا ما حدث بالفعل، فيظل أغلب
الناس في حالة انتظار التغيير، وعندما يدرك عدد كبير منهم أن التغيير بدأ، تبدأ الحركة
الجماعية الإيجابية في الاتساع.
5. من أهم العوامل التي تعوق عملية التغيير والإصلاح بعد الثورة، هي صعوبة الاستمرار
في عملية التغيير كل الوقت. لأن العديد من العقبات التي تواجه الجميع بعد الثورة، تحد
من امكانية التغيير وإحداث تحول إيجابي. لذا نجد أن أول مخططات الدولة العميقة يتمثل
في إعاقة عملية التغيير، حتى لا تحدث أحداث إيجابية متتالية. فكلما حدث أمر إيجابي
أعقبه أمر سلبي، سواء نتيجة الظروف العادية، أو نتيجة فعل مخطط، مما يشعر عامة
الناس بأن عجلة التغيير لا تدور، وأنها تتوقف كثيرا. وهو ما يمنع عامة الناس من
الشعور بالتغيير أو ملاحظة ما يحدث من تغيير على أرض الواقع. وهو ما يؤدي إلى
الشعور بالإحباط، وعملية التغيير تحتاج إلى شعور قوي بالأمل، حتى تبدأ الإفاقة
المجتمعية، ويبدأ الفعل الإيجابي الجماعي المستمر.
تفعيل الدور الشعبي
الملاحظ بعد الثورة، أنه لم تحدث انطلاقة واسعة للنشاط الشعبي والاجتماعي، حيث تأكد أن بنية
المجتمع تفككت بالفعل، لدرجة جعلت الكيانات الاجتماعية في أغلبها غير فاعلة بالقدر المناسب. ولم
ثورة أم صحوة؟.. بين تغيير النظام وإصلاح المجتمع أكتوبر 2102
01
يحدث تحول كبير بعد سقوط النظام، رغم أن سقوطه فك القيود التي عانى منها النشاط الشعبي
والاجتماعي.
كما لم يحدث توجه نحو تنظيم العمل الاجتماعي والشعبي، ولا حدث تحرك واسع نحو تأسيس
كيانات اجتماعية جديدة. وكل ما حدث تمثل أساسا في انتخابات النقابات واتحادات الطلاب، وهي خطوة
مهمة نحو تفعيل تلك الكيانات الاجتماعية. ولكن مجمل النشاط الشعبي والأهلي، ظل محدودا وينمو ببطء.
في حين أن الفاعلية الاجتماعية والأهلية، وصلت أحيانا إلى درجات أفضل من ذلك، في ظل نظام الحكم
المستبد. مما يتضح معه أن في العقدين الأخرين على وجه الخصوص، تمت عملية هدم منظم لبنية
المجتمع، بدرجات لم تحدث من قبل، حتى إن سقوط النظام لم يفجر طاقة الفعل الاجتماعي والشعبي
والأهلي، بمختلف أشكاله. مما يعني أن المجتمع لم يعد يملك الكثير من الكيانات التي تسمح بتنظيم الفعل
الجماعي، والتي يمكن أن تبدأ مبادرات جماعية، تخرج الناس من حالة السلبية إلى الفعل الإيجابي النشط.
وهو ما يؤكد أن عملية إعادة تنشيط المجتمع سوف تستغرق وقتا، مما يؤخر مسيرة التغيير والإصلاح.
وفي ظل هذه الحالة من التفكك المجتمعي الواضح، باتت الحركات الشعبية المنظمة والنشطة،
هي الحركة الإسلامية، والتي استطاعت الحفاظ على البنية التحتية لها في ظل النظام السابق، سواء من
عارض النظام السابق أو من ابتعد عن العمل السياسي، فأصبحت من أهم المحركات الجاهزة للفعل
والنشاط. وهو ما يفتح الباب أمام توسع نشاطها بصورة كبيرة، لتمثل حجر الزاوية في تنشيط الفعل
المجتمعي. ولا تبدو القوى والاتجاهات السياسية الأخرى متجهة نحو بناء بنية اجتماعية تحتية لها، مما
يجعل العديد من التوجهات السياسية، غائبة عن الفعل الاجتماعي، وتركز على النشاط السياسي الخالص،
تاركة الساحة الاجتماعية للحركات الإسلامية.
لهذا فالانطلاقة الاجتماعية تخرج أساسا من الكيانات الاجتماعية الدينية، والتي يبدو أنها حجر
الزاوية في الفعل المجتمعي، والذي ينشط المجتمع. ومع النشاط التدريجي للمجتمع، تتشكل مؤسساته
وكياناته مرة أخرى. ولكن منحنى صعود النشاط الاجتماعي، وإن بقى صاعدا ببطء لفترة طويلة، فإن
وصوله لمرحلة الصعود المتسارع تتحقق بعد فترة زمنية، خاصة عندما يستعيد المجتمع العافية
الاجتماعية، ويصبح أكثر نشاطا.
تلك الحالة تجعل للفاعل الاجتماعي السياسي دورا محوريا في تحريك الشارع نحو التغيير
والإصلاح، وفي تعديل مسار الوعي الجمعي، حتى يكون أكثر إيجابية. مما يجعل للحركة الإسلامية،
الدور المركزي في عملية التغيير والإصلاح، نظرا لنشاطها الاجتماعي والسياسي، ولأن الحركات
الإسلامية المركزية، أنشأت أحزاب يتكامل دورها مع دور التنظيمات الاجتماعية. فالحركة الاجتماعية
الدينية، تمثل الفاعل النشط المنظم، القادر على تفعيل دور المجتمع. ومع غياب أي فاعل آخر، له نفس
القدرة على التمدد داخل المجتمع، تصبح الحركة الإسلامية هي المنشط الرئيس لحركة المجتمع، ولأن
حضورها الاجتماعي واسع، وحضورها السياسي ظاهر، لذا يصبح لدورها تأثيرا متكاملا في جميع
المجالات.
ولأن المجتمع يحتاج من ينظم حركته، بل ويحتاج لمن ينظم المبادرات الجماعية، ويحتاج لمن
يكسر حالة السكون، ويخرج المجتمع لحالة النشاط؛ لذا يبدو دور الحركة الإسلامية مركزيا ومحوريا،
لدرجة تجعل لها القيادة الشعبية والاجتماعية، وتجعلها رأس الحربة في حركة المجتمع. وهو ما يعني أن
ثورة أم صحوة؟.. بين تغيير النظام وإصلاح المجتمع أكتوبر 2102
00
المجتمع يعيد بناء نفسه، داخل سياق المرجعية الدينية، وبقيادة الحركات التي تحمل تلك المرجعية. ومن
هنا يبدو المجتمع وكأنه يستعيد طاقة الإيمان، حتى يواجه مصير ما بعد الثورة، وحتى يتمكن من تحقيق
التغيير والإصلاح المنشود.
فغياب الحضور الاجتماعي الشعبي لمعظم الاتجاهات السياسية، وتجذر دور الحركة الإسلامية،
وميل معظم التوجهات السياسية الأخرى إلى الطبيعة النخبوية وليس الطبيعة الشعبية، يجعل الفاعل
الحاضر اجتماعيا وسياسيا، والحاضر في عمق البنية الشعبية، هو الفاعل الإسلامي. كما أن تجذر
التوجهات الدينية داخل المجتمع، وفي كل شرائحه، وتمددها عبر كل المساحة الجغرافية للمجتمع، يجعل
الرؤية الدينية هي الحاضرة في الوعي الاجتماعي والثقافي العميق، مما يجعل الفاعل الذي يتبنى تلك
الرؤية، حاضرا بها في عمق بؤرة التأثير الاجتماعي.
محتوى ثقافي للثورة
تلك هي المسألة الجوهرية، فالثورة لحظة غضب ضد النظام السياسي، ولم يكن لها محتوى
ثقافي أو حضاري، وحتى تصبح الثورة حركة مجتمعية شاملة نحو بناء مستقبل جديد، تحتاج لمحتوى
ثقافي، يمثل خيارا حضاريا وانحيازا مستقبليا، ويشكل الدافع للحركة المجتمعية الشاملة، حتى يمكن
تحقيق التغيير الحقيقي والإصلاح الشامل.
وداخل الفراغ الثقافي لحركة الثورة المصرية، مثل غيرها من ثورات الربيع العربي، تتحرك
الحركة الإسلامية لملأ هذا الفراغ الثقافي، بمحتوى حضاري إسلامي، تستدعيه من الموروث التاريخي
الحضاري للأمة. فهو لهذا محتوى نابع من الوعي الجمعي، بل وقابع في الوعي الجمعي لعامة الناس،
والحركة الإسلامية تنشطه وتفعله، ثم تحركه وتجعله طاقة حركة وفعل وتغيير، ثم تحمي تلك الطاقة،
وتنشطها باستمرار حتى تتحول إلى دافعية داخلية نحو التغيير والإصلاح، لها مضمون ثقافي ووجهة
حضارية، ولها جذور تاريخية، وعمق جغرافي.
فالحركة الإسلامية لا تنادي برؤية بعيدة عن الوعي الجمعي للناس، بقدر ما تنشط وتنظم وترتب
وتعمق تلك الرؤية، مما يجعل نشرها بين الناس أمرا ممكنا، لأنها رؤية تخرج من داخل الناس وترد لهم.
وهو تسويق لبضاعة لها من الشعبية، كما لها من الانتشار والرسوخ، ما يجعل التسويق لها ينجح.
ولأن الفراغ الثقافي للثورة المصرية مثل أهم مشكلة لها، حيث خرج الناس واسقطوا النظام، ولم
يعرفوا ما المطلوب منهم بعد ذلك، لذا فإن تقدم الحركة الإسلامية لملأ هذا الفراغ، يعطي للثورة بعد
وقت، توجه محدد، ويجعلها تدخل في مسار التغيير والإصلاح الاجتماعي والثقافي والحضاري الشامل،
مما يجعل وعي عامة الناس، يبدأ في رسم تصور محدد عن توجه الثورة، وحركة التغيير والإصلاح،
فيتشكل مسار محدد، نحو مستقبل منشود.
فبسبب حالة ضعف المجتمع، وبسبب تهدم البنية التحتية له، وعدم قدرته على تبني مبادرات
إيجابية بعد الثورة، ولأن الحركة الإسلامية لها بنية نشطة حافظت عليها، ولأنها تستمد رؤيتها من
موروث حاضر في الوعي الجمعي لعامة الناس؛ لذا فإن معادلة الثورة تتطور مع الوقت، وتتحول من
خروج لإسقاط النظام، إلى صحوة حضارية، تتبنى مشروعا ورؤية للتغيير والإصلاح. وهكذا تتحول
الثورة من حركة بلا مضمون ثقافي، إلى حركة لها توجه ثقافي.
ثورة أم صحوة؟.. بين تغيير النظام وإصلاح المجتمع أكتوبر 2102
02
صحوة المجتمع
تلك هي اللحظة التي يتحرك فيها المجتمع، ويبدأ مرحلة الصحوة، وينهي المسافة الفاصلة بين
الثورة والصحوة، عندما يتشكل مضمون ثقافي لحركة الثورة، ولمطالب الثورة، وللمستقبل المنشود.
فغياب المضمون الثقافي للثورة، جعلها حركة من أجل التحرر، دون أن يتحدد توجه معين لهذا التحرر،
وعندما بدأت مرحلة التحرر فعلا، بات المجتمع مضطربا وحائرا. ولأن حركة التحرر الحقيقية يجب أن
يكون لها مضمون ثقافي، لذا فإن ظهور هذا المضمون يؤدي إلى تفعيل حركة المجتمع نحو أهداف
محددة، ويكسب حركة المجتمع قوة ذاتية قادرة على تحدي أي عقبات. وعندما يكون للتحرر مضمون
ثقافي، نابع من الموروث الحضاري، تصبح الثورة حركة تحرر حضاري شامل. لأن الثورات التي تبنت
مضمونا ثقافيا نابعا من الحضارة الغربية، ركزت على التحرر السياسي وغفلت التحرر الحضاري، مما
جعلها ثورات ناقصة، لم تستهدف الاستقلال الكامل. والثورة الناقصة، تهزم في النهاية.
وعندما تتجمع كيانات المجتمع، ويصبح للثورة مضمونا ثقافيا، تبدأ مرحلة أخرى من الثورة،
تعتمد أساسا على الفعل الاجتماعي والشعبي الأهلي النشط، والذي بدونه لا يتحقق التغيير أو الإصلاح.

تعليقات