تصور رواية "ولم يقل كلمة" للروائى "هاينريش بل" ضياع الإنسان الخارج من الحرب، الذي يجد نفسه فجأة بلا سند في عالم مخرب مادياً وروحياً. وعبر التفاصيل الدقيقة يمارس الكاتب فعل التعري والكشف عن بقايا الدناءة والزيف والتشوه الروحي والنفاق والازدواجية، التي هي نتاج المرحلة النازية.. أي كل تلك المظاهر والمضمرات التي أدت إلى الدمار الاجتماعي والاقتصادي والأخلاقي
مقتطفات من الرواية
مقدمة
بعد العمل ,مضيت إلى "البنك " لصرف ذلك الشيك .كان أمام المحاسب "طابور" طويل من الناس .انتظرت نصف ساعة حاملا ذلك الشيك في يدي ,أخيرا رأيت المحاسب يمرره إلى فتاة ترتدي بلوزة صفراء.التفتت الفتاة الى ملف بطاقات الحساب ,وجدت بطاقتي ,أعادت الشيك الى المحاسب قائلة :
-"صحيح".
عدت يدا المحاسب النظيفتان الأوراق النقدية على وجه الرخامة أمامه.أعدت أنا حسابها واتخذت طريقي للخروج .ذهبت الى مائدة صغيرة الى جانب الباب لأضع النقود في ظرف ,ولأكتب ملاحظة لزوجتي .كان على المائدة أوراق إيداع قرنفلية .أخذت واحدة وكتبت على ظهرها بالقلم الرصاص :
"يجب أن أراك غدا ,سأتصل قبل الثانية"
.وضعت الملاحظة في ظرف ..ترددت..أخرجت النقود مرة أخرى ..سحبت قطعة فئة عشرة ماركات منه ووضعتها في جيب سترتي .أخرجت ورقة الملاحظة ثانية ,وأضفت اليها هذه الكلمات:
"احتفظت بعشرة ماركات لنفسي ,سأعيدها لك غدا .قبلي الأطفال ...فريد".
لكن الظرف لا يلتصق ,فذهبت الى رف خال مكتوب عليه إيداعات .الفتاة وراء الزجاج ,نهضت ورفعت زجاج النافذة.كانت نحيلة ,ببشرة سمراء ,ترتدي سترة قرنفلية اللون ,مشدودة عند العنق بوردة صناعية .
سألتها :"أيمكنني أن أحصل على قطعة شريط لاصق ؟"
نظرت الي لحظة وترددت ,ثم قطعت شريطا من لفة لاصق بنية اللون ,سلمته لي دون كلمة ,وأعادت إنزال الزجاج مرة ثانية ,فقلت ووجهي لزجاج النافذة :
-"شكرا".
عدت الى المائدة ..ألصقت الظرف ,وأنزلت قبعتي على جبهتي ,وغادرت "البنك".كانت السماء تمطر حين خرجت ,وفي الشارع بضع أوراق يابسة تنجرف على الأسفلت . وقفت في مدخل "البنك", أنتظر..السيارة رقم (12)تستدير على المنعطف ,قفزت فيها ومضيت الى ميدان "توكوف" .كانت السيارة ملأى بالناس ,وملابسهم تقطر من البلل .كان المطر يزداد شدة حين قفزت نازلا في ميدان "توكوف" ولم أدفع ثمن التذكرة .اندفعت تحت مظلة محل أكلات خفيفة ,تقدمت وطلبت سجقة مقلية وكوبا من مرق البقر, وطلبت عشر سجاير ,وصوفت الماركات العشر .
تناولت قضمة من السجق ..نظرت في المرآة التي احتلت كل حائط الكشك .في البداية ما عرفت نفسي ,وقد رأيت ذلك الوجه المضني تحت القبعة الحائلة اللون ,وانتبهت فجأة الى أني أبدو مثل واحد من أولئك الباعة المتجولين الذين كانو يأتون الى باب أمي ولا يبرحون .كان اليأس القاتم في تلك الوجوه يشخص في الضوء المعتم لواجهة الصالة.كنت أفتح لهم الباب وأنا إذا ذاك ولد صغير .وحين تجيء أمي –وقد كنت أدعوها بإلحاح وعيني على حاملة المعاطف-تجيء بأسرع ما تستطيع من المطبخ ,وهي تنشف يديها بصدريتها فيشع ضوء غريب على تلك الوجوه والأشكال اليائسة .كانو يحاولون بيع كسر الصابون ,أو ملمع الأرضيات أو مقصات, أو أربطة أحذية .. تلوح على تلك الوجوه الرمادية اليائسة سعادة لدى رؤية أمي .لكن لهذه السعادة شيئا ما يكدرها .كانت امرأة طيبة ,فهي لاتطرد أحدا عن بابها ,تعطي الشحاذين خبزا إن كنا نملك بعضا منه ونقودا إن كان لنا شيء.
تقدم لهم في الأقل كوبا من القهوة ,وإذا لم يتبق لنا شيء في الدار تقدم لهم ماء باردا في قدح نظيف .كان حول جرس الباب زحمة إشارات ونداءات متسولين ,تتاح لكل شحاذ فرصة طيبة لبيع شيء ,حتى لا يبقى في البيت ما يكفي لشراء رباط حذاء .لا يثير الباعة ارتياب والدتي ,ولا تستطيع مقاومة أوجه أولئك المعذبين ,فتروح توقع للآخرين على أثمان أشياء تظل ديونا عليها ,كما توقع لهم وثائق تأمين وكفالات .أتذكر وأنا ولد صغير أرقد في فراشي في الليلأني كنت أسمع والدي يعود الى البيت ,ولحظة يدخل غرفة الطعام ,يبدأ الشجار ,شجار مخيف لاتقول فيه والدتي كلمة واحدة .كانت امرأة هادئة .أحد الرجال اعتاد أن يأتي الى مكاننا مرتديا قبعة حائلة اللون ,مثل هذه التي ألبسها الآن ,كان اسمه"ديتش",وكان كاهنا لم يجرد من سلطته ,كما اكتشفت ذلك بعدئذ ,وكان يبيع كسر
بيانات الرواية
الاسم : ولم يقل كلمة
تأليف : هاينريش بل
الترجمة : ياسين طه حافظ
الناشر : الدار المصرية اللبنانية للطباعة والنشر والتوزيع
عدد الصفحات : 228 صفحة
الحجم : 7 ميجا بايت
تحميل رواية ولم يقل كلمة
مقتطفات من الرواية
بعد العمل ,مضيت إلى "البنك " لصرف ذلك الشيك .كان أمام المحاسب "طابور" طويل من الناس .انتظرت نصف ساعة حاملا ذلك الشيك في يدي ,أخيرا رأيت المحاسب يمرره إلى فتاة ترتدي بلوزة صفراء.التفتت الفتاة الى ملف بطاقات الحساب ,وجدت بطاقتي ,أعادت الشيك الى المحاسب قائلة :
-"صحيح".

"يجب أن أراك غدا ,سأتصل قبل الثانية"
.وضعت الملاحظة في ظرف ..ترددت..أخرجت النقود مرة أخرى ..سحبت قطعة فئة عشرة ماركات منه ووضعتها في جيب سترتي .أخرجت ورقة الملاحظة ثانية ,وأضفت اليها هذه الكلمات:
"احتفظت بعشرة ماركات لنفسي ,سأعيدها لك غدا .قبلي الأطفال ...فريد".
لكن الظرف لا يلتصق ,فذهبت الى رف خال مكتوب عليه إيداعات .الفتاة وراء الزجاج ,نهضت ورفعت زجاج النافذة.كانت نحيلة ,ببشرة سمراء ,ترتدي سترة قرنفلية اللون ,مشدودة عند العنق بوردة صناعية .
سألتها :"أيمكنني أن أحصل على قطعة شريط لاصق ؟"
نظرت الي لحظة وترددت ,ثم قطعت شريطا من لفة لاصق بنية اللون ,سلمته لي دون كلمة ,وأعادت إنزال الزجاج مرة ثانية ,فقلت ووجهي لزجاج النافذة :
-"شكرا".
عدت الى المائدة ..ألصقت الظرف ,وأنزلت قبعتي على جبهتي ,وغادرت "البنك".كانت السماء تمطر حين خرجت ,وفي الشارع بضع أوراق يابسة تنجرف على الأسفلت . وقفت في مدخل "البنك", أنتظر..السيارة رقم (12)تستدير على المنعطف ,قفزت فيها ومضيت الى ميدان "توكوف" .كانت السيارة ملأى بالناس ,وملابسهم تقطر من البلل .كان المطر يزداد شدة حين قفزت نازلا في ميدان "توكوف" ولم أدفع ثمن التذكرة .اندفعت تحت مظلة محل أكلات خفيفة ,تقدمت وطلبت سجقة مقلية وكوبا من مرق البقر, وطلبت عشر سجاير ,وصوفت الماركات العشر .
تناولت قضمة من السجق ..نظرت في المرآة التي احتلت كل حائط الكشك .في البداية ما عرفت نفسي ,وقد رأيت ذلك الوجه المضني تحت القبعة الحائلة اللون ,وانتبهت فجأة الى أني أبدو مثل واحد من أولئك الباعة المتجولين الذين كانو يأتون الى باب أمي ولا يبرحون .كان اليأس القاتم في تلك الوجوه يشخص في الضوء المعتم لواجهة الصالة.كنت أفتح لهم الباب وأنا إذا ذاك ولد صغير .وحين تجيء أمي –وقد كنت أدعوها بإلحاح وعيني على حاملة المعاطف-تجيء بأسرع ما تستطيع من المطبخ ,وهي تنشف يديها بصدريتها فيشع ضوء غريب على تلك الوجوه والأشكال اليائسة .كانو يحاولون بيع كسر الصابون ,أو ملمع الأرضيات أو مقصات, أو أربطة أحذية .. تلوح على تلك الوجوه الرمادية اليائسة سعادة لدى رؤية أمي .لكن لهذه السعادة شيئا ما يكدرها .كانت امرأة طيبة ,فهي لاتطرد أحدا عن بابها ,تعطي الشحاذين خبزا إن كنا نملك بعضا منه ونقودا إن كان لنا شيء.
تقدم لهم في الأقل كوبا من القهوة ,وإذا لم يتبق لنا شيء في الدار تقدم لهم ماء باردا في قدح نظيف .كان حول جرس الباب زحمة إشارات ونداءات متسولين ,تتاح لكل شحاذ فرصة طيبة لبيع شيء ,حتى لا يبقى في البيت ما يكفي لشراء رباط حذاء .لا يثير الباعة ارتياب والدتي ,ولا تستطيع مقاومة أوجه أولئك المعذبين ,فتروح توقع للآخرين على أثمان أشياء تظل ديونا عليها ,كما توقع لهم وثائق تأمين وكفالات .أتذكر وأنا ولد صغير أرقد في فراشي في الليلأني كنت أسمع والدي يعود الى البيت ,ولحظة يدخل غرفة الطعام ,يبدأ الشجار ,شجار مخيف لاتقول فيه والدتي كلمة واحدة .كانت امرأة هادئة .أحد الرجال اعتاد أن يأتي الى مكاننا مرتديا قبعة حائلة اللون ,مثل هذه التي ألبسها الآن ,كان اسمه"ديتش",وكان كاهنا لم يجرد من سلطته ,كما اكتشفت ذلك بعدئذ ,وكان يبيع كسر
بيانات الرواية
تأليف : هاينريش بل
الترجمة : ياسين طه حافظ
الناشر : الدار المصرية اللبنانية للطباعة والنشر والتوزيع
عدد الصفحات : 228 صفحة
الحجم : 7 ميجا بايت
تحميل رواية ولم يقل كلمة
تعليقات
إرسال تعليق