سفر لــ محمد المخزنجي


متتالية قصصية بيضاء بلون الثلج، عكفت أتتبع اثر خطوات " المخزنجي" على الثلج إلى أخر صفحة في قراءة متواصلة بلا انقطاع.. بارع هو محمد المخزنجي في الوصف والتعبير، قاسي في تشبيهاته كقسوة الثلج، وهادي كهدوء الليل بين سطوره
وكم شعرت بالبرودة أثناء القراءة! ، ألم أقول انه حقاً بارع
نافذة قرب الجناح
سفر أشعر بفرح الانعتاق فرحا يفعمني بالخفة بالطرب الدافع الى دندنة لحن حزين بسخرية مرحة : " لما أنت ناوي تغيب على طول " وخالعا حذائي والجورب أروح أستمتع بملامسة " الموكيت " لباطني قدمي العاريتين بينما أطل من النافذة قرب الجناح .. في الطائرة قليلة الركاب كأنها خالية , أرض المطار في أول المساء وعربة السلم تمضي لتنضم الى صفوف سلالم الطائرات المتراكمة في الركن رجل أمن يتكلم في جهاز لاسكلي بينما الطائرة تتحرك على المدرج مبتعدة , الآن أوقن في انعتاقي الآن سترتفع الطائرة سأتحرر من هجوم الهموم الكبيرة والصغيرة المتواصل على انسان فقير في العالم الثالث , سأكون في مأمن من مصير السجن والاضطهاد المسلط على رقبتي بلا معنى كسيف قدري , لمجرد أنني اختلفت يوما أو اختلف أو سأختلف وترتفع الطائرة فأشعر بنفسي خفيفا كعصفور , في الفراغ النظيف المضيء المحمول على أجنحة الهواء ويستبد بي طرب المحبة , أغازل المضيفات الجميلات بكلام يشبه الشعر ويلامس ايقاع الأغاني ثم أعود الى النافذة ملقيا آخر نظرة على آخر نقطة من حدود وطني في الليل : ركام من نقاط ضوء الشوارع في تلك المدينة الساحلية التي أعرفها جيدا وتعرفني , مجرة من نجوم مرتعشة الأضواء في سديم الأرض المظلم نجوم انسانية متواضعة ترتعش وهي تتضاءل مع الابتعاد ثم فجأة يبتلعها الظلام فكأنما يبتلعني كأنني أنتزع من عمري أو ينزع عني عمي ويلقي بي في ظلام لا نهائي سابح ...لأضيع أخاف وأواري وجهي في ليل زجاج النافذة المطلق لعله يستر انهياري لو أجهشت في البكاء .
انسان الجليد
خمس عشرة درجة تحت الصفر وسماء الضحى تبدو كسماء ما قبل الفجر : رمادية تومض بنور كسيف مزرق والجليد الناصع يتراكم فوق الأسطح الجمالونية تخترقه دكنة المداخن الجليد هذا الذي يتساقط الآن رذاذا ناعما ينداح بميل شفيفا لا يكاد يرى لكن تكشفه رمادية الأشجار المنتصبة عارية أغصانها من الأوراق والجذوع كأنما غرست في بياض , بياض , بياض بياض صقيعي كثيف وهش يغطي السقوف أفاريز النوافذ الأغصان الخفيضة الأكثر سمكا في الأشجار – الأرصفة تحت هذه الأشجار جنبات أسيجة الأرصفة الشجيرية والنجيل الغافي في أحواض زهور هذه الأرصفة .
كل شيء يشمله الأبيض حتى الطريق الذي تسرع عليه الأقدام المدثرة للبشر المسرعين داخل المعاطف الداكنة الثقيلة تحت أغطية رؤوس فرائية كبيرة توشك أن تخبئ كل الملامح فكأن نسخا مكررة من انسان واحد تدب مسرعة على جادة الجليد , وننعطف نحو أحد الأبواب ندفعه وندخل فيسرع الى احتضاننا الدفء نبتدي – كما في كل مكان بخلع أغطية الرؤوس , القفازات ملافح الرقاب المعاطف ويكاد الانسان – في كل مرة يهتف : كيف انشقت هذه الصالة الدافئة عن كل هؤلاء البشر المحمري الخدود الملونين ببهجة والمتبايني السمت ؟! يتحادثون بحرارة في قلب الدفء وأعثر بينهم بعد تلفت قليل على صديقي .
الليل هنا لا يكون أبدا حالك الظلمة , كأن مصابيح الشوارع القوية البيضاء تفيض بضوئها على الجليد وكأن الجليد يعكس استضاءته على وجه السماء فتبدو في عمق اليل كسماء الفجر ... نور خفيف أبيض رمادي مزرق , يكتنف الوجود ويوقظني أنا من تعود على النوم في سواد عميق للظلمة .

بيانات المجموعة القصصية


الأسم: سفر
المؤلف: محمد المخزنجي
الناشر: الهيئة المصرية العامة
عدد الصفحات: 97
الحجم: 4 ميغا بايت

تحميل المجموعة القصصية سفر

تعليقات