نظرة اخيرة على كين ساي لـ ربيع جابر

"كين ساي هذه مدينة ملعونة، قال أخي. ومنذ ذلك اليوم وجسمي يتركني وييبس كالشجرة التي ضرب جذعها السوس وأكل جذرها الخلد. وغداً تخرج الروح من فمي. لا أقول أني أعترض، لا من بعدي ستزهر شجرة الكرز، من بعدي سيسمع مطر على الأرض، من بعدي كل شيء سيكون كما كان. لكني سأكون في أعماق كل شيء. فالنار هو قانون الأشياء. هو البسيط. وحين ستنطفئ النار في جسمي سأرجع إلى البسيط أرجع حفنة من غبار".

مقتطفات من الرواية


بلغ الساحر قمة الهضبة المطل على كين ساي عند المغيب . هذه ثالث مرة تسدد فيها السماء خطاه إلى هذه النقطة . الارض خطوط و اشارات ، و الانسان حفنة غبار ، اينما شاءت السماء تقذفه ، فيرسم اشكالا فوق خطوط الارض ، ثم يتبعثر و يتلاشى في الهواء . نظر الساحر إلى قدميه . إلى خيوط الدم المنسربة بين الاصابع العارية . إلى التراب المتجمد تحت الاظافر . إلى العشب الذي ايبسه الشمس بعد ان انبتته من بطن التراب . هذا العشب ذاته داسه قبل عشرين سنة . هذا العشب من ذاك العشب . ليس هو ، و لكنه هو . و ابتسم . لأنه قبل عشرين سنة اخرى ، أي قبل اربعين نظرة أخيرة على كين ساي سنة من الان ، تسلق هذه الهضبة مع قطيع من الاغنام ، و الاغنام اكلت كل العشب ، الطري و اليابس .
لكن ها هو العشب حول قدميه . العشب نفسه . نحيل و اصفر و يميل مع نسيم اخر النهار . في المرة الماضية ، قبل عشرين سنة ، ركع الساحر هنا ، و انزل عن كتفه جسد العذراء النائمة ، التي جاء بها ملفوفة بالحرير ، قاطعا الصحاري و الانهار و البحيرات المالحة ليجعلها ملكة .
رأى نفسه محاطا بالاغنام . صوت الثغاء في ثقبي اذنيه و من تحته يتعالى هدير النهر ممتزجا بأغاني العمال و ضجيج ادواتهم . في اول مرة وقف فوق هذه الهضبة قبل اربعين سنة و حسب ، شاهد تاريخ المدينة يبدأ ، إذ اشرف العمال على الانتهاء من بنائها . ذلك المشهد ، مشهد المدينة العجيبة و هي تتشكل و تكتمل امام عينيه بدا له الان مشهدا من منام ، بدا له مناما رآه قبل اربعين سنة و ها هو الان يستعيده فجأة اذ يرى حقا و فوق ارض هذا العالم مشهدا مطابقا له .
ابتسم مرة اخرى : ألم يكن هذا ما حدث اصلا ؟ أليست هذه المدينة ، مدينة كين ساي ، مدينة من نسج الخيال ؟ ألم يرها الملك الذي بناها في منامه فلما استيقظ من المنام رسم الصورة على الورق ، الصورة التي جعلها خريطة هذه المدينة ، و جعل المصورين يرسمونها على جدار بهو الاستقبال في القصر الكبير ما أن انتهوا من بنائه ؟
في المنام رأى ذلك الملك و كان عرشه في كاتاي أنه يمشي فوق رقعة شرطنج عملاقة قسمت إلى مربعات تفصل بينها خطوط غربية . فالخطوط العمودية شوارع من الحجارة و التراب و أما الافقية فقنوات و جداول ماء . رأى ان المربعات التي يمشي فوقها تقوده اذا ذهب بموازاة تيار الماء الجاري في القنوات الافقية المتوازية إلى شاطئ بحيرة شفافة كالبلور فسيحة كسهل الصين و في وسطها تتباعد جزر مستديرة تغطيها غابات خضراء . رأى ايضا ان السير في الاتجاه المعاكس يأخذه إلى نهر عظيم ، ينحدر جنوبا بموازاة الضلع الشرقي لرقعة الشطرنج ثم ينعطف في زاوية شبه قائمة نحو الغرب ، و يمضي بمحاذاة الضلع الجنوبي للرقعة مخترقا السهل حتى البحر البعيد . وقف وسط الرقعة . رأى خط الحجارة و التراب تحت قدميه يزداد عرضا ، واحس بارتجافة في ساقيه ، فأدرك ان ماء الاقنية يجري من تحت التراب في هذه النقطة . رفع رأسه و نظر جنوبا فرأى النهر و الهضبة بعده . استدار و نظر شمالا . تأمل الجبال العالية من حيث ينبع النهر . فوق الجبال كانت السماء عميقة الزرقة كأنها ستمتصه إلى اعماقها ، إلى عالم اخر .

بيانات الرواية




الاسم : نظرة اخيرة على كين ساي
المؤلف : ربيع جابر
الناشر : المركز الثقافي العربي
عدد الصفحات : 244
الحجم : 2.5 ميجا
تحميل رواية نظرة اخيرة على كين ساي

 



تعليقات